الخميس، 21 مايو 2009

فن العمارة العراقية.. تحت قساوة الواقع واللامبالاة



في الوقت الذي استطاع فيه التشكيليون العراقيون أن يخلقوا لهم جمهورا يرتاد و يتابع نشاطهم ومعارضهم ونقادا يتفحصون نتائجهم ويثمنون رؤيتهم ، لم يكن الأمر كذلك مع " العمارة التي بقيت ظاهرة تتعرض للصمت واللامبالاة ، وهذا ما جعل منها مهنة غير مفهومة ومبهمة في كثير من الأحوال ومن المهندس المعماري ذاته إنسانا ذا ميول فردية ظاهرة ومنغلقة على نفسها " . ولكن هل ينتهي الأمر عند أسباب كهذه ؟ ، خاصة ، وان العمارة الحديثة لا يمكن لها الحضور والثقة بوجودها إلا في أجواء حرة من التطور والتقدم الاجتماعي الروحي والمادي ، و بدافعية ثقافة منيعة تطل على المستقبل وتشير دائما باتجاه المدنية والحضارة . ليس من الغرابة إذا، أن تتضاءل لدينا حرية المصمم المعماري وتفرده الإبداعي ، أمام رغبة الجهة المنتفعة لأي مشروع ، مع ما يشكل عن ذلك من اتجاه لا يتعلق بمستوى الكفاءة الجمالية والوظائفية للمنشأ المعماري ، قدر خضوعه لتوجهات سياسية واقتصادية معينة من الجانب الرسمي ، أو غلبة الطموحات الخيلائية عندما يتعين الأمر بالمشاريع الخاصة . للوصول إلى نتائج هي بالضرورة مشوهة بذريعة ذائقة الجهة المستفيدة . ولكن لا يجب علينا أن نتصور " العمارة " أشبه بأبنية نسكنها كيفما اتفق لها ، وان فكرها بمثابة هموم مهنية ليس إلا ، والنظر كذلك إلى " المعماري " في كونه لا يختلف عن المقاول في شيْ . من هنا لابد أن يكون الحديث مختلفا عن العمارة العراقية ، التي لم تكن بمثابة تجربة طارئة ، أو خبرة لم تؤسس لتقاليدها كما يجب . فهذه "العمارة " ومنذ أكثر من نصف قرن ، استطاعت أجتراح حضورها المتقدم ، خاصة مع تجارب معمارييها الرواد من الجيل الثاني_ محمد مكية ، قحطان المدفعي ، قحطان عوني ، رفعت الجادرجي.. وآخرون _ ، الذين افترضوا مشروعهم لرسم واقع معماري انتظمت فيه رؤى جادة ، مع محاولات لابتكار مفاهيم معينة في العملية التصميمية والممارسة المعمارية ، فكان بعضهم يميل إلى تكريس حداثة الأسلوب العالمي ، فيما ظهرت خبرات أخرى نعاينها من تماثلها مع تراثها المعماري المحلي والوطني ، وتم تسجيل تلك المشاريع كمعالم خلاقة على الصعيد العربي والإقليمي . خاصة في عقدي الخمسينات والستينات من القرن المنصرم ، حينما كانت تجربة العمارة العراقية متميزة بطليعيتها وإيجادها لبدائل ناجعة، تجلت خاصة في احتوائها لمشكلة الإسكان التي كانت تعانيها كثير من دول العالم الثالث وقتئذ . ولكن ماذا أصاب هذا الجهد ، الذي غيّب حضوره عن قصد وقطع تواصله ؟ . أجد أن المعماريين وحدهم من يستطيع الإجابة على محنة لحقت بهم ، وبعمارتنا التي تحولت ونحن على أعتاب الألفية الثالثة إلى عمارة " دون دليل " وبعيدة في تعبيرها عن مكانها وزمنها الحقيقي وطموحها للبقاء في المستقبل . منذ أكثر من عقدين من الزمن ، شخصت لدينا عمارة افتقدت إلى النوع والحلول الذكية ، فبعض شوا خصها الحاضرة لم تكن سوى إعادة لتشكيل تكوينات معمارية قديمة ، بخيال هجين ، فيما اتسمت شوا خص أخرى بأشكال وكتل ثابتة غير حيوية . عمارة غفلت عن عصرها وعن روح المكان الذي أقيمت فيه . افترض أن غلبة الجانب المهني ، التقليدي ،في بعده الوظيفي والجمالي ، أحد أسباب حضور عمارة كهذه ، ولا ننس هنا الشرط السياسي والرسمي ، مع ما صاحبه من غياب معماريين ليس بوصفهم فقط خبراء في تكنولوجيا البناء ، بل تعبير يون من خلال أعمالهم في إنجاز عمارة تفصح عن انتباهتها للفن وممارسته في منشأها ، كما في غياب ذلك النوع من النقد الذي يشبع ثقافة وفكرا لا يكتفي بالكشف عن الكفاءة المضمونية والشكلية ، بل يبين اعتراضه الكبير كذلك إزاء العمل المعماري الرديء . إن العمارة ومنذ تاريخها الطويل ، قد خضعت كثيرا لمراحل متعددة من التحول . وهذا ما تشهده العمارة العراقة الحديثة ، التي تعيش الآن أكثر لحظاتها خسارة ، ليس فقط لبعض أسباب أوردناها ، بل جراء واقع شديد القسوة تحياه منذ ثلاث سنوات مع بدأ الاحتلال . حيث شهدت فداحة واضحة نتيجة التدمير والتخريب والإهمال ، وتاليا في غياب دولة ومؤسسة عارفة بما تعمل . لكن حتى اذا صدقنا بمقولة إعادة الأعمار ، يبقى هذا الزمن ، في ما نطل عليه من معنى ، مغايرا ، شديد اللبس ، في أمسّ الحاجة إلى عمارة أكثر جرأة وليس أكثر فداحة ، تبشر بنظام إنساني واجتماعي كثير الإنجاز ، عمارة تكشف عن قيم جمالية وعملية صائبة . إن المدن ومن خلال عمارتها ، لا تكتفي كي تكون أسلوبا معينا لتنظيم السكن والعمل والإنتاج ، بل أيضا تظهر نبلها وروعتها لتكون شاعرية وكثيرة الأمل. ... وكم هي حاجتنا إلى أمل منيع كهذا.



سعد القصاب

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق